منزلة بين المنزلتين في الصراع اليمني الراهن
يمنات
حسين الوادعي
احتدم النقاش على الساحة اليمنية منذ بداية الحرب المزدوجة في مارس 2015 حول الموقف الأخلاقي والسياسي الصحيح من الحرب، ومن الطرفين المتصارعين (فريق الرئيس هادي والتحالف السعودي من جهة، وفريق الحوثي والرئيس السابق صالح من جهة أخرى).
وفي حين مال كثيرون إلى مساندة طرف معين، آثرت مجموعة من المثقفين والصحفيين والحقوقيين اتخاذ موقف ثالث لا يساند أياً من الطرفين المتقاتلين، ويرى أن دوره ليس مساندة هذا الفريق أو ذاك وإنما الدفاع عن حقوق الانسان وكرامته وحياته وكشف خروقات وجرائم المتصارعين.
يؤمن هذا الفريق أن مهمته ليست اتخاذ موقف حدي مع أو ضد أي طرف، وإنما مساعدة الناس على فهم حقيقة الصراع، وتزويدهم بالوعي والفكر النقدي اللازم لاتخاذ الموقف الصحيح.
ليس مطلوباً من الصحفي مثلاً أن ينتصر للشرعية أو يؤيد الانقلاب، لأن عمل الصحفي نقل الأحداث بموضوعية وحياد دون انحياز لأي طرف، لأن انحيازه اعتداء على حق المواطن في المعرفة.
وليس مطلوباً من الحقوقي أن يتحول إلى مقاتل في صف الشرعية أو صف الانقلاب، لأن مهمة الحقوقي الدفاع عن حقوق الإنسان ورصد الانتهاكات وتوثيقها بحيادية ومصداقية بغض النظر عن الطرف الذي ارتكبها.
وليس مطلوباً من المثقف أن يتحول إلى جندي دعاية لدى هذا الطرف أو ذاك، فالمثقف ليس موظفاً في جهاز الأمن الايديولوجي ولا بوقاً لأمراء الحروب. المثقف سابق للسياسي، وعندما يصبح المثقف تابعاً للسياسي يفقد مصداقيته ويتحول إلى كلب حراسة.
اشتهر هذا الفريق إعلامياً باسم “المحايدين”.
وهي تسمية أراد منها الصحفيون والمثقفون التابعون لطرفي الصراع تحويلها إلى لفظ تحقيري وتبخيسي، فبالنسبة للمتصارعين هناك طرفان فقط “حق وباطل” ولا “حياد” بينهما. وهناك “ضحية” هو نحن، و”جلاد” هو الخصم، و تبعاً لذلك فمن ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يحمل رشاشه ليقاتل في جبهاتنا فهو بالضرورة عميل مع الطرف الآخر.
فهل “الحياد” قيمة سلبية أم قيمة إيجابية؟ وهل يتعارض الحياد مع “الانتماء” ومع الانتصار للناس والوطن؟
وهل لدينا نموذج تاريخي يمكن الاستناد إليه؟
عندما احتدم الصراع على السلطة بين علي ومعاوية انقسم الناس فريقين:
فريق يرى أن الحق مع علي ويرى الآخر كافراً. وفريق يرى الحق مع معاوية ويرى الآخر كافراً.
ثم جاءت الخوارج لتضيف موقفاً ثالثاً إلى المواقف القتالية لتعتبر الفريقين كفاراً. وكان هناك فريق رابع هو المرجئة وقد آثروا السكوت والانسحاب وإرجاء الحكم إلى الآخرة.
كان كل فريق يحاول إجبار الآخرين على تبنى موقفه تحت شعار أنه لا حياد بين الحق والباطل وبين الضحية والجلاد. غير أن فريقاً صغيراً يمثله الحسن البصري كان يرى أن الحروب لا يمكن أن تقرأ بالأبيض والأسود وأن الصراعات الكبرى تمتزج فيها خطوط الحق والباطل.
وبناء على هذا فإن علياً ومعاوية من وجهة نظره ليسا كافرين تماماً، ولا مؤمنين تماماً، ولكن هما في “منزلة بين المنزلتين” هي منزلة “الفاسق”. فالفريقان تلاعنا وقتلا بعضهما وصحت فيهما صفة الفسوق. لكن لا يمكن ادعاء أن أحدهما يمتلك الصواب المطلق.
المثقف تبعاً لهذا النموذج ليس تابعاً للسياسي (علي أو معاوية، هادي أو الحوثي)، وليس منعزلاً في برج عاجي (المرجئة، والصامتون اليمنيون) وليس محرضاً على العنف العدمي (الخوارج، القاعدة، أنصار الشريعة)، ولكنه صاحب موقف مختلف ينظر إلى المصلحة العامة “مصلحة الأمة”، ويسمو بالسياسة من الصراع والقتال إلى المبادئ والمشاريع.
عندما سئل واصل بن عطاء عن رأيه في شهادة الزبير وعلي وعائشة وكبار الصحابة المنخرطين في القتال، قال إنها غير مقبولة وإنه لا يأخذ شهادتهم حتى في “باقة فجل”. وكان الأساس الأخلاقي لهذا المثقف الشجاع نابعاً من أن علياً ومعاوية طلاب سلطة سفكا دماء المسلمين طمعاً في الحكم، ومن كان هذا سلوكه فلا عدالة له.
هل نستطيع القول مثلما قالوا إن طرفي الحرب اليمنية “فاسقان” بالمعنى المعتزلي لهذه الكلمة؟ و إننا لا نقبل شهادة “التحالف وهادي”، ولا شهادة “الحوثي وصالح” في “باقة فجل”، ما داما قد تلاعنا وتحاربا وسفكا الدماء؟! وإن البديل هو “المنزلة بين المنزلتين”، القائمة على رفض تديين السياسة، ورفض الإقصاء، وإدانة كل الجرائم، سواء حصلت تحت مظلة “الشرعية”، أو تحت لافتة “مواجهة العدوان”، والإصرار الذي لا يلين أن الصراعات الكبرى لا ترسم بالأبيض والأسود، وأن طاولة الحوار وليس أوهام الحسم العسكري هي الطريق للخروج من النفق الطويل المظلم.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
من حائط الكاتب على الفيسبوك